…
خلال هذا الأسبوع زرت قصرين في مدينتين مختلفتين في ولاية مانيسوتا الأمريكية، قصر “قلنشين” لأحد العوائل الثرية جداً في مدينة دولوث، وهذا القصر اكتمل بناؤه عام ١٩٠٧م، وبلغت تكلفته حوالي ٢٢ مليون دولار (بقيمة الدولار حالياً)، سقف غرفة الاستقبال مطلي بالذهب، وكل شيء في القصر مُصمم بعناية فائقة وبمواد فاخرة، والقصر يقع وسط حديقة غناء تطل على بحيرة سوبيريور. وأما القصر الآخر فهو مبني في وسط مدينة منيابوليس لأحد الأثرياء من أصل سويدي، وقد تم بناؤه في عام ١٩٠٨م بتكلفة حوالي ٤٢ مليون دولار (بقيمة الدولار حالياً)، والآن هذا القصر يتبع المعهد الأمريكي السويدي حيث تقام فيه مناسبات علمية كثيرة.
ما لفت نظري في كلا القصرين أن هناك غرفة مخصصة كمكتبة كبيرة تضم مئات المجلدات، هنا توقفت لحظات للتأمل في هذه المكتبة، وتساءلت:
لماذا يا تُرى هذا الإهتمام بالكتب؟
هل هي جزء من ديكورات القصر؟
وهل المقصود منها خلق انطباع جيد عن صاحب القصر عندما يزوره أصدقاؤه؟
أو هل فعلاً القصد من المكتبة هو القراءة والتعلم؟ ولماذا يريد هذا الثري أن يتعلم إذا كان يملك الثروة التي تحقق أحلامه؟
أو هل يريد إعطاء انطباع بأنه متعلم كي ينال إحترام الآخرين؟ أليس المال هو من يصنع الجاه ويخلق الإحترام عند الآخرين؟
خلال تجولي بالمكتبة في قصر قلنشين لاحظت إحدى اللوحات الإرشادية التي تشير أن غرفة المكتبة كانت من أكثر الأماكن استخداماً في القصر، حتى أن الأطفال إذا ما أرادوا البحث عن الكبار يذهبون مباشرة لغرفة المكتبة، ولم يكتفِ صاحب القصر بقراءة الكتب، وإنما كان يكتب رأيه وانطباعه الخاص عن الكتاب الذي يقرأه، وقد وُضعت صورة لإحدى الأوراق التي كتبها صاحب القصر بخط يده عن رأيه في أحد الكتب التي قرأها. لم تكن في القصر مكتبة واحدة فقط، وإنما توجد مكتبة صغيرة في كل غرفة بالقصر سواء للكبار أو الصغار.
في المجتمعات المتقدمة تُعتبر ثقافة القراءة جزء لا يتجزأ من نمط حياتهم اليومية، فهذا وورن بافيت وهو ثاني أغنى رجل في العالم يقرأ خمسمائة صفحة يومياً، وكذلك العبقري ايلون ماسك صاحب سيارة تيسلا وسبيس اكس لصناعة الصواريخ يقرأ كتاب كل يوم وكتابين كل يوم في عطلة الأسبوع منذ أن كان في الثانوية، وكذلك الحال مع أصحاب الشركات العظمى والذين لا يكتفون بقراءة الكتب بل يستضيفون المؤلفين عندهم في مكاتبهم كما تفعل شركة قوقل وفيسبوك وغيرهم، والأمثلة كثيرة عن الأثرياء الذين لا تُفارق أعينهم الكتاب.
هناك انطباع عند كثير من الناس في مجتمعنا بأن الثروة والعيش في الحياة المادية الرغيدة قد تُعيق فرص القراءة والتعلم، وكأن التعليم هو مجرد وسيلة وليس غاية بحد ذاته، فالهدف من التعلم عند البعض هو جلب المادة، فإذا ما تم تحقيق هذا الهدف توقف الفرد عن القراءة والتعلم.
في الحقيقة لا يوجد أقبح من الجهل في تشويه صورة الإنسان، فكما أن الغذاء الجيد يُحسّن من صحة الإنسان وصورته، وأن سوء التغذية والمجاعة تُشوّه شكل الجسم وتوهن الصحة وتُعطل وظائف أعضاء الجسم، فالجهل هو بمثابة المجاعة للعقل، والخرافة هي بمثابة سوء التغذية له، وكلاهما يُشوّهان صورة الإنسان المعنوية ويُعطلان وظيفة أهم عضو عنده، ألا وهو الدماغ.
ما أقبح الغني الذي يسكن البيوت الفارهة ويلبس الثياب الفخمة ويأكل الطعام اللذيذ ولكنه يُعطي العين العمياء والأُذن الصماء لغذاء العقل والروح. لا لوم على الفقير في جهله، فلربما شغل ذهنه شظف العيش عن الإلتفات للتعلم والقراءة، ولربما يقضي وقته وجهده في البحث عن رزقه، أو قد لا يستطع الوصول إلى الكتاب لقلة ذات اليد، *ولكن ما عذر الغني الذي يملك الثروة والوقت والطاقة وهو يقبع في براثن الجهل والتخلف؟*
_______
فكرة واحدة على ”*الأغنياء والقراءة*“