تأملات في شلال سابانغ

بعد رحلة مدهشة داخل كهوف سابانج النهرية تحت الأرض، والتي تُعد واحدة من عجائب الدنيا السبع الجديدة، وتقع في جزيرة بالاوان في المحيط الهادئ والتابعة لدولة الفلبين، قررنا دخول المغامرة وشدّ الرحيل لجانبٍ آخر من المحيط حيث يقع شلال سابانج، وهو شلال متفرد عن بقية الشلالات التي زرتها من قبل، فلم نكن بالغيه إلاّ بشق الأنفس، وهكذا هي طبيعة ما يُعتبر مكاناً مقدساً، ، فالطريق إليه وعر ويتطلب المشي على صخور صعبة وخطرة، لذا يحتاج الزائر نصف ساعة في العادة ليقطعه مشيًا على صخور صلدة وحادة الأطراف ، مما يتطلب لياقة بدنية عالية وتوازن دقيق. لهذا السبب كنا حذرين جدًا أن لا نفقد توازننا وننزلق بين تلك الصخور ونسقط عليها وترتطم بها أجسامنا. فوصول الإسعاف الى هكذا مكان صعب جداً، لو يحدث مكروه لا سمح الله، ولهذا فكرنا بالتراجع وعدم المجازفة حيث لم نكن نعرف أو نتوقع المصاعب الأخرى التي قد تواجهنا في الطريق قبل أن نصل إلى هدفنا المنشود. إلا أننا لم نقدر على مغالبة جاذبية المشهد، فتوكلنا على الله وأخذنا نَجِدّ في المسير، ولا نعرف متى سنصل، فأخذنا نتساءل بين الفينة والأخرى، وهكذا يحلو السؤال في مثل هذا المسير:

نحن أدرى وقد سألنا بنجدٍ
أقصيرٌ طريقنا أم يطولُ
وكثيرٌ من السؤال اشتياقُ
وكثيرٌ من ردّه تعليلُ

وتساءلنا ما إذا كان منظر الشلال يستحق كل هذا التعب والمشقة والمخاطرة، إذ ليس كل الرغبات تستحق المجازفة، ولكن حب الاستكشاف وشغف الإلتصاق بالطبيعة وربما طبيعة البشر غير المنطقية كان أقوى من كل تلك المخاطر سواء أكانت حقيقية أم متصورة، وقوة الإرادة كانت أقوى من أي تردد:

إذا كنت ذا رأيٍ فكن ذا عزيمةٍ
فإن فساد الرأي أن تترددا

وهذا في الحقيقة كان المورد الذي أمدنا بالطاقة والعزيمة للمضي قدماً نحو الهدف المنشود، وبالفعل لقد كان وقع الدهشة التي أصابتنا عندما اختطف جمال الشلال أبصارنا، وسرق صوت هدير المياه المتساقطة من قمة الجبل أسماعنا، وكأن أبواب السماء انفتحت بماءٍ منهمر، يهوي على ارتفاعات مختلفة من الجبل الصخري ، عازفةً موسيقى الطبيعة، هذا المنظر المذهل المختلط بصوت موسيقى خرير الماء الرائقة كان بمثابة بلسم القلب والروح الذي تغلب على ألم المشقة والتعب والخوف.

هنا لم أتمالك نفسي فخلعت ملابسي كالمجنون وركضت برجلي دون وعي، فهذا مغتسلٌ باردٌ وشراب، وتدفق ماء هادر ينعش القلب والروح ويبعث الجسد وكأنه في خلق جديد، فانصهرت بكل كياني في بوتقة الشلال وكأني والشلال واحد.

أنا من أَهوى وَمَن أَهوى أَنا
نحنُ روحان حَللَنا بَدَنا

فإِذا أَبصرتني أَبصرتهُ
وَإِذا أَبصرتهُ أَبصرتَنا

ولا تنتهي دهشة المنظر عند الشلال فقط، بل تمتد حتى تلتقي مياهه الهادرة بأمواج المحيط الهادئ العاتية، فتأخذ الطبيعة مجراها في الصراع بين القوي والضعيف، والبقاء دائماً للأقوى والأكثر تأقلماً، ولكن لكل قوي هناك من هو أقوى منه.

النواميس قضت أن لا يعيش الضعفاء
إنّ من كان ضعيفًا أكلته الأقوياء

وعند ساحة الملتقى تفتح الأمواج الضخمة فمُها كي تبلع مياه الشلال الجارية كما يلتهم الحوت الأزرق ما في وجهه من سميكات حتى ولو كانت مسرعة، وهكذا ينتهي عمر تلك المياه العذبة لتحل محلها مياه جديدة أخرى في سيل لا ينقطع، وهذا هو حال الإنسان، لا تختلف حياته عن بقية الكائنات في هذا الوجود، فكلما غادر سيل من البشر وضمّته الأرض حطّ في إثره سيلٌ آخر.

رأيت بني الدنيا كوفدينِ
كلما ترحّلَ وفدٌ حطّ في إثرهِ وفدُ

وكلٌ يَحث السير عنها ونحوها
فيمضي بذا نعشٌ ويأتي بذا مهدُ

———————